الإثنين 27 مارس 2023 / 12:08

الأندلس واحة التسامح: كاتب الأمير مسيحي.. والأحد يوم عطلة

يُخاصم المتطرفون ودعاة الكراهية والتشدد صحيح تاريخهم الإسلامي، الذي أعلى من قيمة التسامح، سواء على صعيد الفكر أو على صعيد الممارسة، التي تضمنت منذ عصور الإسلام الأولى نماذج راقية لاحترام مختلف الأديان والعقائد، إلى الحد الذي جعل الأمير عبدالرحمن بن الحَكَم، رابع خلفاء الدولة الأموية في الأندلس، والحفيد الرابع لمؤسس الدولة الأموية في الأندلس عبدالرحمن الداخل، يُعيِّن في بدايات القرن الثالث الهجري كاتباً له من أبناء الديانة المسيحية، هو جومث بن أنطونيان، «قومس» المسيحيين في الدولة، أي رئيس الطائفة المسيحية فيها. وقد جسَّد الأمير عبدالرحمن بن الحكم، من خلال هذه الخطوة التي سبقت زمنها بكثير، نموذجاً للفكر الإسلامي المتقدم والمستنير، في زمن كانت فيه الشرعية الدينية من بين أهم ركائز الشرعية السياسية التي يقوم عليها الحُكْم.
لم يكن عبدالرحمن بن الحكم حاكماً عادياً، فقد استطاع خلال سنوات حكمه (822-852 ميلادية) أن يتغلب على تحديات صعبة، وأن ينهي بحكمة وحزم فترة من الاضطرابات والتمردات التي ورثها عن والده، وقد وصفه المؤرخ الأندلسي أبوحيان القرطبي في كتابة «المقتبس» بأنه «انتقى الرجال للأعمال، واستوزر الأكفاء، من أهل الاكتفاء، وقدوة الأبطال ذوي الغَنَاء، فظهر في أيامه جلة الوزراء وكبار الفقهاء»، ليؤكد المؤرخ الأمين أن حسن اختيار الرجال ووضعهم في المكان الذي يلائم قدراتهم وطاقاتهم كانا من بين أبرز صفات عبدالرحمن بن الحكم، وليجلِّي حقيقة أن اختيار جومث بن أنطونيان لمنصب الكاتب، وهو بدرجة وزير، كان أمراً محسوباً بدقة من جانب الحاكم الشجاع.
اختير جومث لاعتبارات الكفاءة والمصلحة العامة، وهي الاعتبارات التي يراعيها حاكم يُدرك جيداً العوامل الدينية التي تحكم اختياراته، ويدرك أن مصلحة الدولة وشعبها تدخل في صميم هذه العوامل الدينية، بل تنطلق منها. وقد وصف المؤرخ محمد عبدالله عنان جومث بن أنطونيان بأنه كان ممن نبغوا في اللغة العربية، وبلغوا مرتبة البراعة في كتابتها، وأنه كان «أديباً بارعاً وكاتباً مُقتدراً»، أي أنه كان ينتمي بمعرفته وثقافته إلى الدولة التي يعيش فيها، دون أن يتخلى عن دينه الذي اطمأن إليه قلبه، وهو ما احترمه الحاكم المسلم كل الاحترام، ورأى معه أن هذا الرجل مؤهل لأن يكون أحد وجوه الدولة وصانعي قرارها.
وبدوره أكد جومث بن أنطونيان كفاءته وولاءه لدولته معاً، وقدرته على أن يكون عنصراً فاعلاً من عناصر الأمن والاستقرار. فقد واجه الأمير عبدالرحمن بن الحكم، من بين ما واجه، جماعة مسيحية خضعت لدعاة التطرف والتشدد وتعمَّدت الإساءة إلى الإسلام، على النحو الذي جعل الفتنة تطل برأسها على مجتمع يعيش فيه المسلمون والمسيحيون معاً، ما ينذر بالشقاق وإراقة الدماء. ولجأ الحاكم إلى مواجهة الفتنة بالحزم اللازم، لكنه في الوقت ذاته كان يتخذ مساراً يعرف أنه أكثر نجاعة، وهو مواجهة الفكر الديني المتطرف والمنحرف والمشوَّه بالفكر الديني الرشيد والمسؤول، فاستدعى مجموعة من رجال الدين المسيحي، يرأسهم أسقف أشبيلية، وكان جومث بن أنطونيان هو ممثل الأمير في هذه اللجنة الدينية، والناطق بلسان إدانة التطرف والتحذير من مآلاته. وأصدرت اللجنة الدينية قراراً يستنكر سلوك مثيري الفتنة من المسيئين إلى الإسلام، ويُحذّر المسيحيين من الاستماع إلى دعاواهم المضللة، ويؤيِّد اتخاذ الإجراءات القانونية الحازمة مع من يواصلون إذكاء الكراهية والعداء.
لقد أدرك عبدالرحمن بن الحكم أنه يحكم دولة مختلطة، يعيش فيها المسلمون والمسيحيون معاً، وأن إشراك أبناء الوطن في الحكم، وإن كانوا يدينون بدين مختلف، يضمن للجميع حياة أكثر أمناً واستقراراً، وأن هذه الفكرة تتفق والمقاصد الشرعية الإسلامية من حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ المال، فبادر إلى اتخاذ الخطوة الحكيمة التي تضيف إلى تراث الفكر السياسي الإسلامي قيمة رفيعة القدر، وتؤكد أن التطرف والتشدد والنبذ والاستبعاد والكراهية التي يتخذها المتطرفون أسساً لفكرهم ولتحركاتهم لا تنتمي إلا إلى عقولهم القاصرة، ونفوسهم المنحرفة عن وسطية الإسلام وتاريخه الحافل بمظاهر التسامح.
وتجدر الإشارة إلى أنه بعد رحيل عبدالرحمن بن الحكم، وتولي ابنه محمد بن عبدالرحمن منصب أبيه، فإنه أبقى جومث بن أنطونيان في منصبه الرفيع، بل إنه تصدَّى لمحاولات من جانب منافسين للكاتب المسيحي لاستغلال ديانته في مهاجمته، رغبة منهم في أن يحلوا محله، وكذلك لمحاولات ذات دافع سياسي لاستغلال الموقف من جانب الخلفاء العباسيين في بغداد. ولعل ذلك يلقي الضوء على محورية دور الحاكم المستنير في تثبيت أركان التسامح والتعايش في دولته، وأهمية شجاعته وقدرته على التصدي لدعاة الكراهية والمتاجرين بالدين الذين لا يتورعون في تنافسهم الشخصي وتحقيق مصالحهم الذاتية عن استخدام الدين سلاحاً، رغم إدراكهم خطورة مسلكهم، وما يجره على مجتمعاتهم من العواقب الوخيمة.
أخيراً، فإن جومث بن أنطونيان قد جعل من يوم الأحد عطلة أسبوعية، يغيب فيها الكُتاب والمسؤولون وموظفو القصر، وأغلبهم من المسلمين، عن الحضور إلى العمل. ولم يرَ أحد في مثل هذا السلوك ما يضيره أو يمس بعقيدته، لأن المجتمع الأندلسي، عموماً، كان مؤهلاً لاحترام التقاليد الدينية المختلفة، وكان - في بدايات القرن الثاني من الهجرة - أكثر وعياً ونضجاً من بعض من يعيشون بيننا الآن وكانوا غير راضين عن جعل يوم الأحد عطلة أسبوعية، وهو ما يفرض علينا أن نعود إلى تاريخ التسامح الإسلامي الناصع، ونماذجه التي تستحق - بالفعل - الفخر بها.